رحلة شاعر فلسطيني المحفوفة بالأهوال للخروج من غزة


لا نريد أنا وزوجتي الرحيل عندما تأتي الحرب إلى غزة. بل نرغب في البقاء مع والدينا وأشقائنا وشقيقاتنا، ونعرف أن مغادرة غزة تعني أن نتركهم وراءنا. وحتى عندما يُفتَح المعبر الحدودي مع مصر أمام حَمَلة جوازات السفر الأجنبية مثل ابننا مصطفى البالغ من العمر ثلاثة أعوام، نقرر البقاء. شقتنا في مدينة بيت لاهيا في شمالي قطاع غزة تقع في الطابق الثالث. فوقنا وتحتنا يسكن أخوتي ويعيش والديّ في الطابق الأرضي. يربّي والدي الدجاج والأرانب في الحديقة. وعندي مكتبة مليئة بالكتب التي أحبها.

ثم تلقي إسرائيل منشورات على ضاحيتنا تأمرنا بضرورة الإخلاء، فتكتظّ بنا شقة من غرفتين استعرناها في مخيم جباليا للاجئين. بعدها بقليل يصلنا نبأ أن قنبلةً قد دمرت منزلنا. تنهمر قنابل القصف الجوي على المخيم فتقتل عشرات الناس على مبعدة مائة مترٍ من بابنا. مع مرور الوقت يتوقف والدانا عن مطالبتنا بالبقاء.

عندما لا تعود شقتنا في مخيم اللاجئين ملاذاً آمناً، ننتقل مرة أخرى إلى مدرسة تابعة لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا). تنام زوجتي مرام في أحد الفصول مع عشرات من النساء والأطفال. وأنام أنا مع الرجال في العراء مكشوفين لقطرات الندى. مرةً أسمع صوت شظية يتردد في أرجاء المدرسة وكأن فنجاناً قد وقع من فوق طاولة المطبخ.

الآن عندما نتحدث أنا ومرام عن الرحيل نعرف ان القرار لا يخصنا وحدنا، بل إنه يخص أبناءنا الثلاثة. ففي غزة، الأطفال ليسوا أطفالاً بالمعنى الحقيقي للكلمة. يتحدث ابننا يزن ذو الأعوام الثمانية عن استعادة لُعبه من تحت أنقاض دارنا. كان ينبغي الآن أن يتعلم الرسم، ولعب كرة القدم، والتقاط صورة للأسرة. ولكنه يتعلم الآن كيف يختبيء عند سقوط القنابل.

في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) تظهر أسماؤنا في قائمة المُصرّح لهم بالسفر من معبر رفح الحدودي التي تسمح لنا بالخروج من غزة. في اليوم التالي نخرج سيراً على الأقدام وننضم لموجة من الفلسطينيين الذين يقطعون رحلة الثلاثين كيلومتراً صوب الجنوب. هناك من يتحركون بسرعة أكبر منا على ظهور الحمير أو في مركبات التوكتوك، ولكن سرعان ما نراهم عائدين نحونا. نرى صديقاً فيخبرنا أن القوات الإسرائيلية قد نصبت نقطة تفتيش في طريق صلاح الدين؛ طريق السفر الممتد من الشمال إلى الجنوب والذي كان من المفترض أن يكون طريقاً للخروج الآمن. ويقول إن إطلاق النار هناك قد أقنعه بالرجوع. نعود إلى المدرسة.

يعاني مصطفى ويافا ابنتنا التي تبلغ من العمر ست سنوات من ارتفاع شديد في درجة الحرارة حتى أنهما لا يستطيعان المشي إلا بالكاد. وكانت أخواتي يطالبننا بعدم الرحيل. تقول مرام: “لا يجب أن نتركهم.” نريد البقاء من أجل أسرتنا، ومن أجل أسرتنا نريد الرحيل.

ثم في الخامس عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) كنت في الطابق الثالث من المدرسة على وشك أن أرتشف الشاي، عندما سمعت سمعي صوت انفجار تلحقه الصرخات. انفجرت قذيفة من النوع الذي نسميه بقنابل الدخان في الخارج. ويحاول الناس إطفاء النار بإلقاء الرمل عليها.

بعدها بلحظات تنفجر قنبلة دخان أخرى في السماء فوق رؤوسنا وتنفث سحابة بيضاء من الغاز. نهرع إلى الداخل، نسعل، ونغلق الأبواب والشبابيك. توزّع مرام قطعاً من القماش المبلل، نضعها على أنوفنا وأفواهنا محاولين التنفس.

في تلك الليلة نسمع صوت القنابل وقذائف الدبابات، ولا أكاد أنام للحظة. في الأيام التالية أجد في حلقي طعم الغاز وأعاني من الإسهال. لا أستطيع أن أجد مرحاضاً نظيفاً حيث لا توجد مياه لطرد الفضلات. أرغب في التقيؤ.
كنت أمازح أسرتي قائلاً إن وقف إطلاق النار سيحل يوم عيد ميلادي الحادي والثلاثين في السابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني). عندما يأتي ذلك اليوم، أشعر بالحرج. أسأل أمي: “أين كعكة عيد ميلادي؟” تقول إنها ستخبزها عندما تعود إلى بيتنا المهدّم.

في الثامن عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) تدمّر قذائف الدبابات الإسرائيلية فصلين في مدرسة أخرى يقيم فيها جَدّا مرام وأعمامها. يتلقى نسيبي أحمد خبراً بأن عدداً من أفراد عائلته الممتدة قد استشهدوا. يحثنا والداي على عدم مغادرة ملاذنا. ولكننا عندما تصلنا الأخبار، نتظاهر بأننا ذاهبين إلى الحمام ونخرج باحثين عن أقاربنا.

في الطريق المترب المفضي إلى المدرسة نرى مشهداً تتقطع له نياط القلوب. الناس يفرون حاملين اسطوانات الغاز والحشايا والبطاطين. تسيل الدماء من عدد من الحمير والخيول. ذيل واحد من الأحصنة يكاد يكون مفصولاً عن جسده. وعندما يحاول شاب أن يروي ظمأ الحصان تتسرب المياه من ثقب في عنقه. يسألني الشاب إن كان معي سكين حتى ينهي بها معاناته.

يملأنا الارتياح عندما نجد جدّي مرام في الداخل جالسين على الأرض. إذ يقوم أخوالها بجمع أغراضهم، يتحدث واحد منهم عن النزوح إلى الجنوب. يتوسل إليه جدّا مرام ألّا يذهب.

أستيقظ في الخامسة من صباح اليوم التالي وأجد السماء ملبدة بالغيوم. هناك عاصفة في الطريق. الجميع نيام. أملأ زجاجة من السطل المفتوح. أتوضّأ وأصلّي الفجر. في حوالي السادسة والنصف صباحاً يأتي نادر عم مرام إلى غرفتنا متأهباً للرحيل إلى الجنوب مع أخوته. يقول: “إن كان أحد منكم يريد الإنضمام إلينا، ستجدوننا عند بوابة المستشفى.”

عندما أسأل مرام ما إذا كانت تريد الذهاب، ترد بالإيجاب هذه المرة. وتقول لي: “كل حقائبنا جاهزة.”

تخبر مرام والديها بقرارنا. يبكيان وهي تحتضنهما. ثم نذهب إلى الطابق الثالث حيث يجلس والداي على فرشة في الممر. يتناولان قهوتهما الصباحية مع اثنتين من أخواتي وزوجيهما. أجلس القرفصاء، وبصوت خفيض أخبر والديّ أننا سنحاول مغادرة غزة.

يشحب وجه أمي. تنظر إلى أطفالي والدموع في عينيها.
لا أريد أن أحتضن أحداً لأنني لا أريد أن أصدق أنني سأتركهم. أقبّل والديّ وأصافح أخوتي وكأنني ذاهب في رحلة قصيرة فحسب. الشعور الذي يراودني ليس إحساساً بالذنب وإنما إحساس بالظلم. لماذا استطيع المغادرة بينما لا يستطيعونها هم؟ كان من حسن طالعنا أن وُلِد مصطفى في الولايات المتحدة. هل يجعلهم هذا دون مستوى البشر أو أقل جدارة بالحماية لمجرد أن أطفالهم لم يولدوا هناك؟ تلح عليّ فكرة أنني، عندما نسافر، قد لا أتمكن من الاتصال بهم أو حتى معرفة ما إذا كانوا أحياء أم موتى. كل خطوة نقطعها ستنتزعنا منهم.

كانت مرام جارتي قبل أن تصبح زوجة لي. في عام 2000 عندما كنت في الثامنة من عمري، أخرجنا أبي من مسقط رأسي مخيم الشاطيء للاجئين ونقلنا إلى بيت لاهيا حيث بنى لنا بيتاً. كانت مرام التي تصغرني بسنة تسكن في البيت المجاور. كانت تعجبني حتى أنني في نهاية كل عام دراسي كنت أعطيها كتبي المدرسية القديمة حتى لا تضطر لشراء كتب جديدة.

ذات يوم رأتني مرام واقفاً في الطابق الثالث من منزل أسرتي، أتطلع نحو الأفق بمنظار مكبر جديد. نت أستطيع أن أرى حدود إسرائيل من شباكنا. أرسلت أختها الصغرى لتسألني ما إذا كنت أبحث عن فتاة ما.

قلت لشقيقة مرام إن هذا الأمر لا يخصها. ولكنني أدركت بعد ذلك أن مرام تُكنّ لي مشاعر خاصة . بدأنا في تهريب الرسائل لبعضنا البعض عن طريق شقيقاتنا الصغيرات. وتزوجنا في عام 2015 عندما بلغت الثانية والعشرين من عمري.

في الصباح الذي ننطلق فيه صوب الجنوب، ترتدي مرام جلباباً وتحمل بطانية يافا. للبطانية رأس ثعلب وزوج من الأكمام حتى تستطيع الصغيرة ارتداءها كعباءة. معنا لتر واحد من الماء. عندما ننتهي من جمع أغراضنا ونسير إلى بوابة المستشفى مع إبراهيم أصغر أشقاء مرام، نجد أن أخوالها قد غادروا بالفعل.

أشير لمراهق يقود عربة يجرها حمار وأسأله: “متجه إلى الجنوب؟”
ليست عنده أدنى فكرة في أي اتجاه يقع الجنوب. يسألني بدوره: “كم ستدفع لي؟”

أعرض عليه مائة شيكل إسرائيلي. هناك شاب آخر يصحب والدته التي تجلس في مقعد متحرك. يتقاسم معنا تكلفة الرحلة.

تتهادى عربتنا بجوار البيوت والمحال التي هدمها القصف. الطريق نهر من البشر يتدفق جنوباً، يحمل العديد منهم رايات بيضاء للإعلان عن هويتهم كمدنيين. يقفز إبراهيم من عربة الكارو ويلتقط عصا ثم يربط فيها فانلة داخلية بيضاء.

وسط الزحام أرى رجلاً يُدعى رامي كان يلعب معي كرة القدم منذ أكثر من عقد مضى. يتهلل مغتبطاً ويسأل ما إذا كان من الممكن لوالده البالغ من العمر سبعين عاماً أن يركب عربتنا. نفسح له مكاناً ونستمر في رحلتنا.

بعد أن نقطع قرابة الثلاثة عشر كيلومتراً نمر بميدان الكويت. يلوح كمين إسرائيلي على البعد. يتحكم الجنود في تدفق المشاة باستخدام دبابة وحاجز رملي. عندما يرغب الجنود في إغلاق الطريق، تتحرك الدبابة لتسده.

يزدحم الطريق بمئات من البشر، شباباً وشيوخاً، الواقفين أمام الدبابة. أتذكر مشهداً مماثلاً- في نكبة 1948 عندما أجبرت المليشيات الصهيونية مئات الآلاف من الفلسطينيين على النزوح من قراهم وبلداتهم. في صور ذلك العصر نرى أسراً تفر سيراً على الأقدام حاملين فوق رؤوسهم ما تبقى من ممتلكاتهم.
الأطفال خائفون. يسألني مصطفى إن كان يستطيع العودة إلى الشمال، إلى جدته إيمان التي كانت تُرقِده في فراشه كل ليلة. لا أعرف ماذا أقول له. بعد وقت طويل أقول إصبر، سنراها مرة أخرى.

عندما نقترب من الدبابة أرفع لأعلى حزمة من وثائق السفر يتصدرها جواز السفر الأمريكي الأزرق الخاص بمصطفى. يزعق أحد الجنود في مكبر صوت، ويحمل جندي آخر مدفعاً رشاشاً. لقد عشت في غزة طيلة حياتي تقريباً وهؤلاء أول جنود إسرائيليين أراهم بعيني. لست خائفاً منهم، لكنني سأخافهم عما قريب.

تغمرنا السعادة عندما نلمح أمامنا أخوال مرام. ينادي عليهم إبراهيم. يبتسم خالها أمجد ويزعق قائلاً: “وصلتم؟”

يزحف الطابور ببطء إلى الأمام. يدفع فايز، أحد أخوال والد مرام، كرسياً متحركاً تجلس فيه والدة جدتها ذات الأعوام التسعين. لدهشتي، يتمكن فايز من إقناع الجنود بمرور كبار السن أولاً برفقة شخص واحد. ولكن عندما يحاول إثنان مرافقة مقعد متحرك واحد يأمرهما جندي غاضب بالتوقف ويطلق رصاصة من بندقيته على الأرض.

الأطفال يصرخون. يتسرب الرعب إلى الطابور. تقوم هبة ريح وكأنها تعيد ترتيب خشبة المسرح. تزحف الدبابة عائدة لقطع الطريق. تنقضي عشرون دقيقة تقريباً قبل أن تعود أدراجها مرة أخرى.

نوشك على المرور من نقطة التفتيش عندما يبدأ جندي في الصياح بشكل يبدو عشوائياً.

“الشاب الذي يحمل حقيبة بلاستيكية زرقاء ويرتدي جاكيت أصفر. ضع كل شيء على الأرض وتعال هنا.”

بعد أن يصادر الجنود الإسرائيليون جوازات سفرنا، أخشى ألا تكون بحوزتنا الوثائق الضرورية للخروج من غزة.

“الرجل ذو الشعر الأبيض ويحمل طفلاً بين ذراعيه، اترك كل شيء وتعال!”
أفكر أنهم لن يخرجونني من الطابور. أحمل مصطفى وألوّح بجواز سفره الأمريكي. عندها يقول الجندي: “الشاب الذي يحمل حقيبة ظهر سوداء وطفلاً أحمر الشعر. اترك الطفل وتعال عندي.” إنه يكلمني أنا.

أتخذ قراراً مفاجئاً بأن أحاول أن أعرض جوازاتنا أمام الجنود. تحتفظ مرام بهاتفي وبجواز سفرها. أقول لنفسي: “سأحدثهم عنّا وأخبرهم أننا في الطريق إلى معبر رفح وأن ابننا مواطن أمريكي.” لم أقطع إلا خطوات قليلة ثم يأمرني الجندي بالتوقف في مكاني. أشعر بخوف هائل حتى أنني أنسى أن ألقي نظرة ورائي على مصطفى الذي أسمع صوت بكائه.

أنضم إلى طابور الشباب الراكعين على ركبتيهم. امرأتان مسنتان تنتظران رجالاً محتجزين فيأمرهما الجندي بالاستمرار في السير. يقول لهما الجندي: “إذا لم تتحركا سنطلق النار عليكما.” ورائي يجهش شاب بالبكاء قائلاً: “لماذا اختاروني؟ أنا مجرد فلاح. أقول له لا تقلق. سيستجوبوننا ثم يطلقون سراحنا.

بعد نصف ساعة أسمع اسمي بالكامل مرتين: “مصعب مصطفى حسن أبو توهة.” أشعر بالحيرة. لم أعرض بطاقة هويتي على أحد عندما أُخرِجت من الطابور. كيف يعرفون اسمي؟

أسير صوب عربة جيب إسرائيلية. فوهة مدفع مسددة نحوي. عندما أُسأَل عن رقم هويتي أقوله بأعلى صوت ممكن.

“أوكيه. اجلس بجوار الآخرين.”

قرابة العشرة منا راكعون الآن على الرمل. أرى أكواماً من النقود والسجائر والهواتف النقالة والساعات والمحافظ. أتعرف على رجل من حينا أصغر سناً من أبي بقليل. يقول لي: “أهم شيء هو ألا يأخذوننا كدروع بشرية لحماية دباباتهم.” لم يخطر هذا الاحتمال على بالي قط. يزداد رعبي.

يقتادنا الجنود إثنين إثنين إلى فَسَحة قرب جدار. يأمرنا جندي يحمل مكبر صوت بخلع ملابسنا بينما يسدد جنديان آخران مدفعيهما نحونا. أخلع ملابسي حتى لا يتبقى عليّ إلا البوكسر، وكذلك حال الشاب الواقف بجواري.

يأمرنا الجندي بالاستمرار. ننظر إلى بعضنا مصدومين. أتخيل أنني أرى تحركاً من جانب أحد الجنديين المسلحين وأخاف على حياتي. نخلع ملابسنا الداخلية.

“استديروا!”

هذه هي المرة الأولى في حياتي التي يراني فيها غرباء عارياً. يتحدثون بالعبرية ويبدون مرحين. هل يضحكون على شعر جسدي؟ ربما يمكنهم أن يروا الندوب الناشئة عن جرح شظية لجبهتي وعنقي عندما كان عمري ستة عشر عاماً. يسأل جندي عن وثائق سفري. أقول مرتجفاً: “هذه هي جوازات سفرنا. نحن في الطريق إلى معبر رفح.”

“اخرس يا ابن الشرموطة.”

يُسمَح لي بارتداء ملابسي باستثناء الجاكيت. يأخذون محفظتي ويقيّدون يديّ خلف ظهري بأغلال من البلاستيك. يعلّق جندي على بطاقتي كموظف في الأونروا فأقول له: “أنا مدرس.” يسبني مرة أخرى.

يربط الجنود عُصابة على عينيّ ويلفّون سواراً مُرقّماً حول معصمي. أتساءل كيف سيشعر الإسرائيليون لو أصبحت هويتهم مجرد أرقام. ثم يجذبني شخص من رقبتي من الخلف، ويدفعني إلى الأمام كما لو كنا خرافاً في طريقها إلى المذبح. أستمر في المطالبة بشخص أتحدث إليه ولا يستجيب لي أحد. الأرض موحلة وباردة ومليئة بالأنقاض.

أُدفَع للركوع على ركبتيّ، ثم اُجبَر على الوقوف، ثم أومر بالركوع مرةً أخرى. يستمر الجنود في السؤال بالعربية: “ما اسمك؟ وما رقم بطاقة هويتك؟”
يسألني رجل بالإنجليزية: “أنت من النشطاء، مع حماس، أليس كذلك؟”
“أنا؟ أقسم ألا صلة لي بهم. توقفت عن الذهاب إلى المسجد عندما بدأت دراستي الجامعية في 2010. قضيت السنوات الأربعة الماضية في الولايات المتحدة حيث حصلت على درجة الماجستير في الآداب في الكتابة الإبداعية من جامعة سيراكيوز.”

تبدو عليه الدهشة.

أغادر بيتي حاملاً كتاباً واحداً: نسخة مهترئة من ديواني الشعري، “أشياء قد تجدها مُخبّأة في أذني: قصائد من غزة.”

“اعترف بعض أعضاء حماس ممن ألقينا القبض عليهم إنك عضو في حماس.”
أقول: “إنهم كاذبون.” وأطالب بدليل.

يصفعني على وجهي. “عليك أنت أن تأتيني بدليل أنك لست عضواً في حماس.”
كل شيء حولي مظلم ومخيف. أسأل نفسي، كيف يمكن لشخص أن يأتي بدليل يثبت النفي؟ ثم أُدفع للمشي بعدوانية مرة أخرى. ماذا فعلت؟ إلى أين يأخذوننا؟

أومر بخلع حذائي، وتُقتاد مجموعة منا إلى مكان آخر. يضرب المطر والريح الباردة ظهورنا.

يقول شخص “لقد اغتصبتم فتياتنا، وقتلتم أطفالنا.” يصفعنا على أعناقنا ويركل ظهورنا بحذائه العسكري الثقيل. على البعد، نسمع صوت قذائف المدفعية يشق الهواء.

نُجبر على الدخول في شاحنة واحداً تلو الآخر. يسقط شخص جامد الجسد في حِجري. أخشى أن يكون الجندي قد ألقى عليّ بجثة كشكل من أشكال التعذيب، لكنني أخشى أن أتكلم. أهمس: “هل أنت على قيد الحياة؟”

يقول الشخص: “نعم يا رجل.” أتنفس الصعداء ارتياحاً.

عندما تتوقف الشاحنة نسمع ما يبدو انه صوت إطلاق أعيرة نارية. لم أعد أشعر بجسدي. تفوح من الجنود رائحة تذكّرني بالتوابيت. أجد نفسي أتمنى أن تودي بحياتي أزمة قلبية.

في الوقفة التالية نركع في الخارج مرة أخرى. أبدأ في التساؤل ما إذا كانت القوات الإسرائيلية تعرضنا للعيان. عندما يصرخ شاب
بجواري “لست من حماس، لست من حماس.” أسمع صوت ركلات إلى ان يلتزم الصمت.

يقول رجل آخر بصوت خفيض كأنه يحدث نفسه “يجب أن أكون مع ابنتي وزوجتي الحامل. أرجوكم.”

تمتليء عيناي بالدموع. أتخيل مرام والأطفال على الجانب الآخر من نقطة التفتيش. ليس عندهم بطاطين ولا حتى ما يكفي من الملابس. أسمع صوت الجنديات يضحكن ويتبادلن الحديث.

فجأة، يركلني شخص في بطني. أعود إلى الوراء وأسقط على الأرض منقطع الأنفاس. أصرخ بالعربية مستغيثاً بأمي.

أُجبر على العودة لوضع الركوع. ليس هناك وقت للإحساس بالخوف. يركلني حذاء عسكري ثقيل في فمي وأنفي. أشعر أنني قد انتهيت تقريباً، لكن الكابوس لم ينتهِ بعد.

عند العودة إلى الشاحنة، يؤلمني جسدي إلى حد أنني أتمنى لو لم تكن عندي أيدٍ أو أكتاف. بعد رحلة دامت لفترة تقارب ساعة ونصف، أُخرِجنا من الشاحنة ودُفِعنا على درجات سلم. يقطع جندي قيدي البلاستيكي ويأمرني: “ضع يديك الاثنتين على السور.”

هذه المرة، يُقيّد الجندي يديّ من الأمام. تنهيدة ارتياح. يرافقني شخص لمسافة خمسة عشر متراً. وأخيراً، أسمع شخصاً يحادثني بما يبدو أنه لهجة فلسطينية أصيلة. يبدو وكأنه في سن والدي.

في البداية، أكره هذا الرجل. أظن أنه من المتعاونين مع الاحتلال. ثم أسمع من يصفه بكلمة “الشاويش”، معتقل مثلنا وليس أمامه خيار سوى أن يعمل في خدمة سجانيه. يقول: “دعني أساعدك.”

يكسوني الشاويش بملابس جديدة ويسير معي إلى داخل السور. عندما أرفع رأسي معصوبة العينين أرى لمحة مهزوزة لسقف من الصاج المعدني. نحن في مركز اعتقال ما؛ يسير الجنود بداخله مراقبين إيانا. يفك الشاويش ما يشبه مرتبة يوغا ويغطيني ببطانية خفيفة. أضع يديّ المربوطتين خلف رأسي كوسادة. يلهب الألم ذراعيّ لكن الدفء يتسلل إلى جسدي ببطء. هذه نهاية اليوم الأول.

لسنوات كنت أحلم بالنظر من شباك طائرة وبرؤية بيتي من أعلى. ولم أرَ قط طيلة حياتي الواعية طائرة مدنية في سماء غزة. لم أرَ إلا الطائرات الحربية والمُسيّرات. قصفت إسرائيل مطار غزة الدولي في بداية الألفينات أثناء الانتفاضة الثانية، ولم يعُد المطار للعمل منذ ذلك الحين.

لم يغادر معظم أصدقائي غزة أبداً. لكنهم في السنوات الأخيرة، خلال سعيهم المضني للحصول على عمل وإطعام أسرهم، بدأوا في التساؤل إلى متى يتعين عليّ الانتظار؟ هاجر بعضهم إلى تركيا ومن بعدها إلى أوربا. كان بعضهم يحسدني على رحلاتي الثلاثة إلى الولايات المتحدة. وكلما عدت بصور لمدن غير مألوفة وأشجار وثلوج كانوا يسمونني “الأمريكي” ويسألونني لماذا عدت؟ ويقولون لا يُوجَد شيء في غزة. أقول لهم دوماً إنني أريد أن أعيش مع أسرتي ومع جيراني في حيّنا. عندي بيتي وعملي بالتدريس وكتبي. أستطيع أن ألعب الكرة مع أصدقائي وأن أخرج لتناول الطعام. فلماذا أترك غزة؟

نصحو على صوت جندي يزعق في مكبر الصوت. يتأكد الشاويش أن الجميع راكعون على ركبتيهم على الأرض. أخبرنا أننا في مكان يُدعى بير السبع في صحراء النقب. هذه أول مرة أدخل فيها إسرائيل.

فجأة، يصرخ أصغرنا سناً الذي تعرفت على صوته من الطابور، معلناً براءته. ويقول: “أحتاج لرؤية أمي.” أبدأ في الشعور بخدر في أقدامي.

أسمع زعيقاً وصوت ضربات. يقول: “حسناً، أوكيه، سأغلق فمي ولكن أرجوكم أن تعيدوني.” يتلو ذلك المزيد من الضربات.

يطلب الشخص المجاور لي ماءً من الشاويش. يقول الشاويش: “لا ماء الآن.” يبدو صوته محبطاً وأتعاطف معه. يعتمد عليه أكثر من مائة من المحتجزين. عندما يأخذني إلى دورة المياه لأول مرة منذ صباح اليوم السابق، يجد نفسه مضطراً لمساعدتي في فتح الباب وإيقافي في وضع التبول. الرائحة العفنة شديدة القوة.

الإفطار قطعة صغيرة من الخبز وبعض الزبادي وجرعة من الماء تُسكب مباشرةً في أفواهنا. لا أشعر بالجوع، ولا حتى بالرغبة في كعكة أمي التي تخبزها لعيد ميلادي. عندما أعود إلى دورة المياه قرب الظهر، يخبرني الشاويش بعدم وجود ورق تواليت او مياه أنظف بها نفسي.

بعد ذلك، يخبر جندي الشاويش أننا سنذهب لرؤية الطبيب. أشعر بارتياح يسود الغرفة.

“سأخبره عن مرضي بالسكري.”

“وأنا سأخبره عن مشكلة مثانتي.”

أنا سأخبره عن الألم في أنفي وفكي العلوي وأذني اليمنى التي خضعت لجراحة قبل عدة سنوات. منذ الركلات التي تعرض لها وجهي أصبح سمعي أضعف من ذي قبل.

نركع في الخارج واضعين أيدينا على ظهر الشخص الجالس أمامنا. تضربنا الريح وتغوص الحجارة في رُكَبِنا. نُوضع في حافلة ويدفع جندي رأسي إلى أسفل رغم أنني لا أستطيع أن أرى شيئاً. ربما لا يريدون النظر إلى وجوهنا.

عندما نخرج من الشاحنة ويُنادى على إسمي، تُعاد لي بطاقة هويتي مؤقتاً. أشعر بوخزة أمل. ربما ينوون الإفراج عنّا.

داخل المبنى، تُنزع العصابة من على عينيّ. يسدد جندي مدفعه الرشاش إم 16 إلى رأسي. تطرح جندية أخرى جالسة أمام كومبيوتر عدة أسئلة وتلتقط صورة لي. تُربط بطاقة مُرقّمة أخرى على ذراعي الأيسر. ثم أرى الطبيب الذي يسألني ما إذا كنت أعاني من أمراض مزمنة أو أشعر بالإعياء. لا يبدو مهتماً بآلامي.
عند العودة إلى مركز الاحتجاز، تُغمّى عيوننا بالعصابات مرة أخرى، ونركع بشكل مؤلم لساعات. أحاول النوم. يتأوه رجل قريباً مني؛ ويأمل آخر أن يعود إلى الطبيب مرة أخرى. في وقت متأخر من المساء ينادي جندي على إسمي. يقودني الشاويش إلى البوابة وتأتي عربة جيب لتأخذني.

أُقيّد إلى مقعد في غرفة صغيرة. يدخل ضابط إسرائيلي، الكابتن ت، ويسألني بالعربية “مرحبا، كيفك؟”

أخبره أنني حزين جداً بسبب كل ما تعرضت له.

يقول لا تحزن. سنتكلم.

يغادر الكابتن الغرفة ويعود حاملاً قهوة. يفك جندي ذراعي الأيمن حتى أستطيع أن أمسك بفنجاني.

أقول له إنني سأخبره بكل شيء عن نفسي، بما في ذلك مكان تواجدي يوم 7 أكتوبر، لكنني أريد منه أن يرد على سؤال واحد.

“أكيد. كلي آذان صاغية.”

عندما نترك شمال غزة، ندس ملابس أطفالنا الشتوية في حقيبة الظهر الخاصة بيزن

تحمل مرام بطانية أطفال لها رأس ثعلب وكُمّان، حتى يستطيع أطفالنا ارتداءها كعباءة.

هل سيفرج عني إذا لم يثبت شيء ضدي؟
يعدني بأنه سيفعل ذلك.

يُسجّل ملاحظات وأنا أحكي له عن رحلاتي إلى الولايات المتحدة، وعن ديواني الشعري، وطلابي في صف اللغة الانجليزية. أخبره أنني في صباح يوم 7 أكتوبر، عندما بدأت حماس في إطلاق صواريخها على إسرائيل، كنت أرتدي ملابس جديدة، وكانت زوجتي تلتقط لي صورة بها. تسبب صوت الصواريخ في بكاء يافا، لذلك عرضت عليها بعض فيديوهات يوتيوب على هاتفي. كان والدي وأخوتي في طوابق مختلفة من بيتنا، وبدأنا في محادثة بصوت عالً من خلال نوافذنا. ما هذا؟ ما الذي يحدث؟ أهي تجربة من نوع ما؟

على تطبيق تيليجرام، بدأنا نرى فيديوهات مقاتلي حماس بسياراتهم الجيب ودراجاتهم النارية داخل إسرائيل، يطوّقون البيوت ويطلقون النار على الجنود الإسرائيليين. في البداية، بدا أن بعض أبناء غزة سعداء بالهجوم ومتحمسون له، لكن العديدين منا كانوا يشعرون بالحيرة وبالخوف. بالرغم من أن الاحتلال الإسرائيلي قد دمّر غزة، لم يكن بوسعي أن أبرر الفظائع المرتكبة ضد المدنيين الإسرائيليين. ليس هناك أي سبب يدعو لقتل أي شخص بهذه الطريقة. وكنت أعرف أيضاً أن إسرائيل سترد. لم يسبق لحماس أن قامت بأي شيء يماثل ذلك الهجوم، وكنت أخشى أن انتقام إسرائيل سيكون بدوره غير مسبوق.

يسألني الكابتن ت سؤالين. أولاً هل أعرف شيئاً عن أنفاق حماس أو عن خططها لنصب كمائن؟

أقول له إنني قضيت معظم السنوات الأربعة الماضية في الولايات المتحدة. وأكرّس وقتي للتدريس والقراءة والكتابة ولعب كرة القدم. لا علم لي بهذه الأشياء ولست منخرطاً مع حماس.

بعد ذلك يسألني الكابتن ت عن أسماء وأعمار أفراد أسرتي. وقبل أن أخرج، يخبرني أنه ينحدر من أسرة من يهود المغرب. ويقول إن هناك الكثير من الأشياء المشتركة بيننا. أوميء برأسي وابتسم محاولاً أن أصدق أنه يعني ما يقوله.

أسأله عما سيحدث لي. يقول إنهم سينظرون فيما قلته له. قد يستغرق الأمر بضعة أيام.

“وبعدها؟”

“إما سنسجنك أو سنفرج عنك.”

أرقد مُقيّداً على سرير في انتظار العودة إلى مركز الاحتجاز. يأتي شخص ليأخذني لكنه يتوقف للدخول في حديث مع شخص آخر. يتركانني لفترة وأغفو على صوت موسيقى عبرية. يعجبني صوت المغني.

عندما أستيقظ، يقول لي جندي بالإنجليزية شيئاً لا أستطيع تصديقه.

“نأسف للخطأ الذي وقع. ستعود إلى بيتك.”
“هل أنت جاد ؟”

صمت.

“سأعود إلى غزة وإلى أسرتي؟”

“ولِمَ لا اكون جادّاً؟”

يتدخل صوت آخر: “أليس هذا هو الكاتب؟”

عند عودتي إلى مركز الاحتجاز، وأنا احاول النوم، أفكر في عبارة “نأسف للخطأ الذي وقع.” وأتساءل عن عدد الأخطاء التي وقع فيها الجيش الإسرائيلي، وأتساءل هل سيعتذرون لأي شخص آخر؟

يوم الثلاثاء، أي بعد مغادرتي المدرسة بيومين تقريباً، يعلمنا الرجل الذي يحمل مكبر الصوت كيف نقول صباح الخير بالعبرية. نردد وراءه جماعةً “بوكر توف كابتن.” وصلت مجموعة من المحتجزين الجدد إلى منطقة مُسيّجة بالقرب منّا، ويبدو أن الجنود الذين يراقبونهم يستمتعون بعملهم. ينشدون جزءاً من أغنية أطفال عربية اسمها “يا غنماتي” ويأمرون المحتجزين بالرد عليهم بثغاء الخروف قائلين “ماء، ماء.”

بعدها بحوالي ساعة، ينادي جندي على إسمي ويأمرني بالوقوف قرب البوابة. يحذرني الشاويش أنهم قد يحققون معي ويضربونني مرة أخرى، ويقول: “كن قوياً ولا تكذب.” تغزوني دفقة من الرعب.

بعد ساعة يقترب مني عدد من الجنود. مع أحدهم بطاقة هويتي ويلقي آخر بشبشب أمامي ويأمرني بالسير. ثم يقول واحد منهم: “إفراج.”

تملأني سعادة غامرة تدفعني لأن أقول له شكراً. أفكر في زوجتي وأطفالي. أتمنى أن يكون والديّ واخوتي على قيد الحياة.

أقضي نحو ساعتين في المكان الذي تم التحقيق معي فيه على أنغام الموسيقى العبرية. يعطونني بعض الطعام والماء، لكن الجندي يفشل في العثور على جوازات سفرنا. أركب عربة جيب محاطاً بالجنود. بعد ساعتين، أرى من خلف عصابة عينيّ أننا نقترب من غزة.

يخرج الجنود من السيارة، يدخنون، ثم يعودون مدججين بالسلاح مرتدين ستراتهم وخوذاتهم. أفكر في الرجل الذي تعرفت عليه في الطابور وفيما قاله عن الدروع البشرية. أجد نفسي أتمنى العودة إلى مركز الاحتجاز عندما يسلمونني بطاقة هويتي.

واقفاً بجوار الحائط، أقول لأقرب الجنود مني إنني خائف.

“لا تخف. ستمشي قريباً.”

تُقطع قيودي البلاستيكية وتُنزع العصابة عن عينيّ. أرى المكان الذي أُمِرت فيه بخلع ملابسي. يكتسحني الحزن عندما أرى مجموعة من المحتجزين الجدد جالسين هناك.

أمشي بسرعة. عند نقطة التفتيش أجد حقيبتي وسط كومة كبيرة من الأشياء لكنني لا أعثر على حقيبة ظهر يزن التي ملأناها بملابس أطفالنا الشتوية. يزعق جندي فيّ بغضب. أقول: “لقد أُفرِج عني للتو.”

في طريق صلاح الدين، يقف عشرات الناس منتظرين. تسألني أم باكية إن كنت قد رأيت ابنها، وتقول: “اختُطِف يوم الاثنين.” اليوم هو الثلاثاء. وأنا لم أرَه.
لا نقود معي ولا هاتف, لكن سائقاً شهماً يعرض توصيلي إلى مدينة دير البلح في الجنوب. أعرف أن أقارب زوجتي قد لجأوا إلى تلك المدينة، وعلى الأرجح أن تكون مرام والأولاد قد انضموا إليهم. في الطريق، أظل أسأل السائق أين نحن؟ فيذكر أسماء مخيمات اللاجئين: النصيرات والبريج والمغازي.

في دير البلح، تقف مجموعة من الشباب أمام مصرف لاستخدام شبكة الواي فاي الخاصة به. أسألهم إن كانوا يعرفون أي شخص من مدينتي الأم. يوجّهني واحد منهم صوب مدرسة.

أخلع شبشبي وأبدأ في الجري. يحدّق فيّ المارة لكنني لا أهتم. فجأة، أرى مهدي صديقي القديم الذي كان حارساً لمرمى فريقي في كرة القدم. “يا مهدي، أنا تائه – ساعدني.”

يقول: “مصعب!” ونحتضن بعضنا البعض.

يخبرني: “زوجتك وأولادك في المدرسة المجاورة للكلية. اتجه يساراً وامشِ نحو مائتي متراً.”

آخذ في البكاء وأنا أعدو. ولحظة أن يبدأ القلق يساورني بأنني قد ضللت طريقي، أسمع صوت يافا: “بابا!” ابنتي أول خطوة لحل اللغز. تبدو في صحة جيدة، وتأكل برتقالة. عندما أسألها عن مكان بقية أفراد الأسرة، تمسك بيدي وتقودني كما لو كنت طفلاً.

في شقة صديقتي في القاهرة، أرى زهوراً كان والديّ يزرعانها في شمال غزة.

يهرع ساري، خال مرام، للبحث عنها. لا يخبرها بعودتي وإنما يكتفي بالقول إن عليها أن تعود إلى المدرسة لتناول العشاء. عندما تقع عينها عليّ تبدو وكأنها على وشك الانهيار، أجري نحوها.

تخبرني مرام بمدى حسن حظي. استخدمت زوجتي هاتفي لإخبار الأصدقاء في مختلف أنحاء العالم، فطالبوا بالإفراج الآمن عني. أفكر في مئات بل آلاف الفلسطينيين الذين يفوقني الكثير منهم موهبةً، والذين اختطفوا عند نقطة التفتيش. لم يكن بوسع أصدقائهم تقديم المساعدة لهم.

في اليوم التالي، الأربعاء، أذهب إلى المستشفى لفحص إصاباتي. أرى المرضى والجثث في كل مكان، في الممرات وعلى السلم وفوق المكاتب. نجحت في إجراء أشعة، ولكن دون نتائج: كمبيوتر الطبيب متعطل عن العمل. أترك المستشفى بروشتة لبعض مسكنات الألم.

يوم الجمعة يبدأ وقف إطلاق النار المؤقت. يحاول اثنان من أخوال زوجتي الذهاب إلى الشمال، لكنهما يعودان بعد ساعة واحدة فحسب. يقولان إن القناصة الإسرائيليين قد فتحوا النار وقتلوا شخصين. في السوق، يرتفع سعر الملابس عما كان عليه في أي وقت مضى. أنتظر لخمس ساعات في مركز معونات الأونروا على أمل الحصول على بعض الطحين، ولا أنجح. طول طابور ملء اسطوانات الغاز يقارب كيلومتر بكامله.

حالما ينتهي وقف إطلاق النار، يُقتل قرابة سبعمائة فلسطينياُ خلال أربعة وعشرين ساعة. حتى وقت قريب، كان الجنوب آمناً نسبياً، ولكننا الآن نسمع دويّ انفجار القنابل على مقربة منّا.

تتصل بنا السفارة الأمريكية في القدس وتخبرنا أن علينا التوجه إلى معبر رفح.
أجهد للعثور على سيارة تقلنا. المسافة نحو عشرين كيلومتراً. أول سائقين تحدثنا معهما يشعران بالخوف. عزلت القوات الإسرائيلية رفح عن مدينة خانيونس المجاورة لها. بعد عدة مكالمات هاتفية، يوافق ابن عمة مرام، الذي يعمل سائقاً لتاكسي، على أخذنا إلى المعبر.

ننتظر في المعبر مع مئات من الغزاويين لمدة أربع ساعات. معي بطاقة هويتي التي تتضمن أسماء أبنائي، لكن مرام وحدها هي التي تحمل جواز سفرها. أخشى أننا لا نحمل الوثائق المطلوبة لاجتياز المعبر. لكن بحلول الساعة السابعة، يلوّح لنا المسؤولون بعبور البوابة. ننضم إلى حشد من الأسر المُرهَقة في صالة الانتظار المصرية. أشعر أنني قد شُفيت. تمنحنا السفارة الأمريكية جواز سفر للطوارئ لمصطفى، وتعطينا السفارة الفلسطينية وثائق سفر لمرة واحدة. ثم يأخذنا الميني باص إلى القاهرة.

في “حالة حصار” يكتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش شيئاً تصعب ترجمته إلى الإنجليزية. يقول” “نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ ، وما يفعل العاطلون عن العمل: نُرَبِّي الأملْ” .” فعل “نُربّي” هو ما يفعله الآباء مع أبنائهم وما يفعله المزارع مع محاصيله. “الأمل” كلمة صعبة لدى الفلسطينيين. فهو ليس شيئاً يعطينا إياه الآخرون وإنما شيء يجب أن نزرعه ونتعهده بالرعاية بمفردنا. يجب أن نساعد الأمل على النمو.

آمل عندما تنتهي الحرب أن أتمكن من العودة إلى غزة، آمل أن أساعد في إعادة بناء بيت عائلتي وملئه بالكتب. آمل أن يأتي يوم يتمكن فيه كل الإسرائيليين من رؤيتنا كأنداد لهم – كشعب يحتاج أن يعيش على أرضه في امان ورفاهية لبناء مستقبل. آمل أن يتحقق حلمي برؤية غزة من شباك طائرة وأن يتمكن بيتي من تربية المزيد من الأحلام. من الحقيقي أن هناك الكثير من الأشياء التي يستحق الفلسطينيون الانتقاد بسببها. نحن منقسمون. نعاني من الفساد. العديد من قادتنا لا يمثلوننا. وبعضنا عنيف. ولكن في نهاية المطاف، نتشاطر نحن الفلسطينيين شيئاً واحداً على الأقلّ مع الإسرائيليين. يجب أن نمتلك بلداً يخصنا – أو أن نعيش سوياً في بلد واحد يتمتع فيه الفلسطينيون بحقوق كاملة ومتساوية. يجب أن يكون لدينا مطارنا وميناؤنا واقتصادنا الخاص – أي ما يتمتع به أي بلد آخر.

ترحب بنا صديقة مصرية في القاهرة. تعيش في حي الزمالك الواقع في جزيرة وسط النيل. عندما أنزل إلى حديقتها، أرى زهوراً كان أبواي يزرعانها في بيت لاهيا. وأرى على أرففها كتباً خلّفتها وراءي، تحت الأنقاض. عندما أقول لها إن بيتها يذكّرني بدارنا، تأخذ في البكاء.

بعدها بفترة، أجد مقالاً في صحيفة ها آرتس الإسرائيلية عن مركز احتجاز في (بير السبع.) يصف المقال نفس الأوضاع التي عشتها، ويقول إن عدداً من المحتجزين قد لاقوا حتفهم وهم في قبضة إسرائيل. عندما يتم التواصل مع الجيش الإسرائيلي للتعليق على قصتي، يقول المتحدث الرسمي: “يُعامل المحتجزون وفقاً للمعايير الدولية بما في ذلك التفتيش الضروري عن الأسلحة المُخبّأة. يعطي جيش الدفاع الإسرائيلي الأولوية لكرامة المحتجزين، وسينظر في أي خروج عن بروتوكول السلوك.” لا يعلق المتحدث الرسمي على وفيات المحتجزين.

على تطبيق تليجرام، أرى فيديو لمدرسة خليفة بن زايد الابتدائية وهي مدرسة تابعة للأونروا درست فيها أنا وإبنيّ يزن ويافا. لجأ نسيم ورمضان خالا مرام، اللذين وُلِدا أصمّين وأبكمين، مع أسرتيهما في المدرسة. عندما يسمع أطفالي الفيديو يتركان لُعبَهما وينضمان إليّ. تقول يافا: “هذا فصلي.” كانت قد بدأت دراستها في الصف الأول الإبتدائي قبل أسابيع قليلة فحسب. يرى يزن فصله أيضاً. في الفيديو، النيران تلتهم المدرسة.

أعرف من أحد الأقارب أن القوات الإسرائيلية قد أخذت الرجال من المدرسة إلى المستشفى حيث جُرِّدوا من ثيابهم وتم التحقيق معهم. بعد ذلك ذهب نسيم ورمضان للبحث عن أبنائهم. يقول قريبي إن قناصاً أطلق النار عليهما قرب بوابة المدرسة وقتل نسيم.

يرسل لي ساري، شقيق نسيم الأصغر الذي قابلته قبل عدة أيام فحسب، صورة لنسيم مرتدياً بالطو طبيب أبيض مُلطّخاً بدمائه. ويكتب لي ساري على الواتساب: “كانت هذه هي الملابس الوحيدة التي وجدوها في المستشفى.” تجلس مرام بجانبي وهي تجهش بالبكاء.

في اليوم التالي، تطبخ مرام المقلوبة، أكلة من الأرز واللحم والخضروات لم أذقها منذ شهرين. أستمتع برائحة البطاطس والطماطم ثم تأتيني مكالمة هاتفية من رقم خاص.

“أهلاً يا مصعب. كيف حالك؟”

المتكلم هو جليل، حماي. تمتليء عينا مرام بالدموع عند سماع صوته. يقول لنا إن كل شيء بخير وعلى ما يُرام، رغم أننا نعرف أن ذلك لا يمكن أن يكون حقيقياً. ثم تأخذ والدتها الهاتف.

تقول مرام: “عظّم الله أجرنا في مصابنا يا أمي.” وأسمع والدتها تنتحب.
“هل تواظبين على أخذ أدويتك يا ماما؟”

ترد: “لا تقلقي عليّ.” قلقنا عليهم لا يتوقف قط.

لا أعرف إن كانت رحلتنا ستنتهي في مصر أم ستستمر إلى الولايات المتحدة. لا أعرف إلا أن أبنائي يحتاجون لأن يعيشوا طفولتهم. وأنهم بحاجة إلى السفر وإلى التعليم ولأن يعيشوا حياةً مختلفة عن حياتي.

أتيت إلى مصر حاملاً معي كتاباً واحداً، نسخة مهترئة من ديواني الشعري. منذ آخر مرة قرأته فيها، عشت الكثير من القصائد الجديدة التي ما زال يتعين عليّ أن أكتبها. بعد أسابيع من الكتابة على هاتفي في الطرقات والمدارس، لم أعد معتاداً على فتح حاسوبي دون أن أقلق على متى سيتاح لي أن أشحنه مرة أخرى. لست معتاداً على أن يكون بوسعي إغلاق الباب. ولكن ذات صباح، أجلس على مكتب صديقتي الخشبي الجميل في غرفة يغمرها الضوء، وأكتب قصيدة موجهة إلى أمي. آمل أن أتمكن من قراءتها لها في المرة المقبلة التي نتحدث فيها.

(ترجمها عن الإنجليزية حسام فخر)

نشرت في الطبعة الورقية في 1 يناير 2024 بعنوان “طريق غير آمن.”

مصعب أبو توهة شاعر فلسطيني من غزة. وصل ديوانه الأول “أشياء قد تجدها مخبأة في أذني” إلى القائمة النهائية ل National Book Critics Circle Award وحصل على جائزة American Book Award.



Source link

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *